موضوعات العنف
والسلام
من محركات
التدمير إلى مشفرات النص التشكيلي
عادل كامل*
[1] في
نظام التعبير
تفصح مسيرة الفنان إبراهيم العبدلي الفنية، منذ بدأ بدراسة
أصول الفن، وقواعده، وتاريخه، وأساليبه، برؤية لم يسمح لها
بالانفصال عن واقعه الاجتماعي، واليومي من ناحية، ولا أن
يتجاهل طرق التحديث، ومدارس الحداثة من ناحية ثانية.
ولأن تجربة العبدلي، في تسلسلها التاريخي، لم تتمرد على
جيل الرواد؛ فائق حسن وجواد سليم، ولم تبتعد عن النزعة
الواقعية لمختلف الاتجاهات، فقد أنجز، وهو المنشغل حد
الانبهار، بالضوء والحياة وعلاماتهما، بالواقعية الحديثة،
بما تمثله من محافظة على الهوية، وموقعها، في عصر تزداد
فيه الانخلاعات، والتصادمات، والمهيمنات، حد المحو، وسيادة
عصر ما يسمى بـ: موت الفن.
هذه الواقعية، لا ترجعنا إلى المنجز الريادي لسنوات
خمسينيات القرن الماضي، في التشكيل العراقي فحسب، بل إلى
مفهوم لم يُخلع، ولم يركن، إزاء فنطازيا التيارات
الحداثوية، وما واكب الرأسمالية من أزمات، وراديكاليات، في
الفنون المعاصرة. فرؤية العبدلي، في الأصل، انحازت للتيار
الذي عالج قضايا الإنسان، في سياقها الكلي، مثلما في
تفاصيلها الدقيقة. فواقعيته، وإن حافظت على دراسة ما تراه
العين، وتلمسه الأصابع، إلا أنها ـ وفي هذا السياق نفسه ـ
استمدت ديناميتها من الفضاءات الداخلية لشخصياته، ومن
الموضوعات ذات الطابع التاريخي، والاجتماعي، والنفسي أيضا
ً. لقد أدرك (بما أنتجته واقعية كبار أساتذة الرسم) أن
مآزق الحضارة، في تحولاتها، تعمل على الحذف، والاستحداث،
بما يقترن بها، وبنظامها في الإنتاج والتصدير والاستهلاك،
إضافة للصعوبات التي تواجه تأثيرات أساليب القوى الكبرى،
من استحواذ يبلغ درجة المحو، وفرض خطاب (أو أكثر) ليعبر
عنها.
لكن واقعية إبراهيم العبدلي، تتنوع، ولا تعلن عن انحيازها
إلا لمفهوم: الحياة الأقل عدوانية، والأكثر رغبة لمقاومة
العنف. فمنذ رسم أزقة بغداد، ورصد معالمها الشعبية،
ونقوشها، ورموزها، مصّورا ً الحياة الاجتماعية، وعادات
الناس، وملامحهم الشخصية (البورتريه)، ومهنهم .. الخ تشبث
بتصوير الحياة في بعدها الواقعي، دون بذخ أو ترف. ففي هذه
الواقعية اشتغل برصد اثر الزمن، و (المتغيرات) في الأشكال،
كي تغدو نصوصه التشكيلية سجلا ً توثيقيا ً للحياة في
أشكالها المتنوعة، حد اختلافها الخلاق، أو المشفر بما
تخفيه في سياقها الفني. فصور الفلاح، وأستاذ الجامعة،
والطيور، والعربات، والأطفال، والشعراء، والطبيعة، والأزقة،
والحياة الجامدة (ستل لايف)، والمهن، والمدن .. الخ كي لا
يهمل الموضوع الأكثر إثارة للألم: الحرب ـ والعنف بمختلف
تنويعاته قسوة.
[2] جدلية
الذات ـ والموضوع
إن مسيرة الفنان لا تفصح عن فنان محترف، بمعزل عن فنان
كونته رهافته، وأفكاره، ونزعته الجمالية. ففي رصده لحياة
المدينة، مع عناية خاصة بجماليات الطبيعة، وريفها، فان
المفهوم الاجتماعي للفن سيغدو أكثر صلة بمفهوم (التحّضر)
الذي أشار ابن خلدون إليه، في مقدمته، قبل زمن بعيد.
فالمجتمعي، ليس الاجتماعي، وإنما هو ضرب من سلوك يشتغل في
التهذيب، مستندا ً إلى البنائية، والتركيب، في مجال إعادة
بناء عناصر النص التشكيلي. والعبدلي ـ هنا ـ ينتمي إلى
حقبة الريادة، باختيار معالجة حياة المدينة، بظاهرها وبما
تخفيه العلامات وتفصح عنه، رمزيا ً، أو بما هو في الأعماق.
وبمعنى آخر فان رؤية إبراهيم العبدلي الواقعية، لم تكن
بحدود التسجيل، أو الوثيقة، أو أنها اكتفت بدور العدسة
الفوتوغرافية (مع أنها امتداد للبصر)، وإنما عملت برؤية
لتاريخ كونته ما لا يحصى من الرموز والعلامات والمحركات،
لمدينة (ولمدن أخرى كالقدس، أو عمان) ـ وهي بغداد ـ كما
رصدها عن قرب. فالفنان لم يعزل (التعبير) عن ديالكتيك
الذات بالموضوع. فقد مكث يبحث عن جسور مشتركة بين الواقع،
كما هو عليه، وبين رؤية الفنان إليه. انه ينتمي إلى منهج
رسّخ لديه حقيقة التنوع، وتعددية زوايا النظر، ودقة الرصد
أو المراقبة. والتوازن بين الذاتي ـ الموضوعي، لم يدفعه
لمنح العاطفة (الشخصية) إلا العناية بالموضوع، مثلما كان
الأخير محركا ً له في مهارة الانجاز.
[3] تنوع
الروافد
هذه الواقعية، بتوازن عناصرها، منحت الأسلوب مكوناته على
صعيد الهوية، وما يميزها بالدرجة الأولى عن أساليب
راديكالية لم تنتج (حداثتها) من الداخل، بل استعارتها من
أنظمة التعبير العالمية، في الغالب، إضافة إلى خصائص
واقعية، عن واقعيات لم تول الذات مكانتها في الرؤية
التكاملية. فالخارج ليس راسخا ً، أو ثابتا ً، أو أبديا ً،
مهما بدا صلبا ً، فهو ـ بفعل ما لا يحصى من العوامل، وفي
مقدمتها الزمن ـ لا يتجمد كأشكال راسخة، وإنما سيكون في
مواجهة ذات، هي الأخرى، غير ساكنة، بل لن تتشكل إلا عبر
ديناميتها، كي تحقق واقعيتها، أو، أسلوبها في إعادة صياغة
هذا الديالكتيك، وما يقود إليه على صعيد التصميم، والبناء،
والتكنيك، والعاطفة، والرهافة في الأخير.
[4] الصوت
والبصر
وقبل أن يشتغل العبدلي برصد مفهوم (الصدمة)، متمثلة بالعنف
أو الاضطراب أو العدوان أو (الرداءة) ـ لم يتخل عن قراءة
الحياة بولع من سكنته المدينة (بغداد) وسكنها أيضا ً. فثمة
جسر من بغداد نحو القلب، عبر الحنجرة، ومن القلب نحو
المدينة التي مازالت أطيافها تجاور مدافنها منذ هدمها
المغول (1258م) وتركوها كثكلى لا تنجب أبناء إلا ليوم أن
تقيم عرسا ً لوليدها، بدل متابعة الندب، وديمومة النواح،
هذا الدافع وج في صوت الفنان لغة تحاذي مهارته البصرية.
ففي صوته مهارة محترف صاغت منه الرؤية مدوّنا ًلعلامات
ستشكل نصوصه التشكيلية. انه صوت لا تغلب عليه العاطفة إلا
بموضوعيتها، أي، بواقعيتها، حيث الهوية، هنا، لا تؤكد
أصالة المقامات البغدادية فحسب، بل وقدرتها على توكيد
مغزاها الجمالي ـ والفني، بما تشيّده من معمار له خصائص
العمل الايكولوجي (البيئي) وأسسه العلمية، والجمالية في
الأخير. فالجمال هنا ليس انحيازا ً، لفئة، أو لايديولوجيا،
أو لمعتقد، بل هو ـ بمشفراته ـ يعمل على بناء يكف فيه
العنف (أو نزعة العدوان/ والخراب) عن هدم الجمال، أي، هدم
القلب البشري، ومعماره.
[5]
المحركات وأشكالها: الواقعية في حدود اشتغال الرمز
إن العبدلي لا يذكرنا برسومات فنانين أمثال (بوش)* أو (غويا)
أو (دوميه) أو بالتعبيريين الألمان في استلهام ويلات
الحروب، ولا يذكرنا بجورنيكا بيكاسو، بصفتها نصا
أيديولوجيا، أو بالصور الفوتوغرافية التي توثق المعارك
المستلهمة من أسفار التاريخ: كبطولات أو بمصاف الكوارث
والنكبات ... انه، بصفته لم يهمل اثر البيئة في توازناتها
مع الكائنات الحية (الايكولوجية الشاملة) فقد انحاز
لمعالجة موضوعات، وحالات إنسانية تضمنت أبعادها المختلفة.
فالنصوص الفنية لا تمجد السلم، بصفتها لا تحدث إلا في
الحلم، بل لأنها الاختيار الذي لا يقارن بالفقدان، وما
تحدثه الحروب من خسران لا احد يدرك فداحتها إلا من لم يجب
عنها، لأنه ضحيتها، تاركا ً للمتلقي، أطيافه وآماله خارج
حدود الدفن ـ وخارج حدود الفن. إن الفنان، في هذا النسق،
يلتقط ومضات نبضات تجد سكنها في الأشكال: البشر/ الآثار/
المعمار/ الأرض/ الأشجار/ والسماء ... الخ كي تحكي هذا
الحد الفاصل بين الحدود: الخراب ـ النعيم، الغائب ـ الحاضر،
الجاف ـ الرطب، الأخضر ـ اليابس، الوداع ـ العودة، والأسى
العميق ـ ؟ ..الخ إنها ليست محض صور تسرد حكايات محورها
الموت/ الحرب/ الشقاء/ والخراب فحسب، بل التشبث بدينامية
كان العبدلي قد رصدها وهو يرسم مدنه، من القدس إلى الكعبة،
ومن أزقة بغداد إلى أحياء الدمام، ومن الشام إلى عمان ..
الخ حيث المكان لا يكتفي بعلاماته، وما يدل عليه، بل
بهويته. وهنا، مع حرص الفنان بالحفاظ على واقعية الأشكال،
ومعالجتها بعناية، يسمح للتعبير أن يحافظ على لغزه الجمالي.
انه الموقف غير الأيديولوجي، إلا في حدود منح الآمل معادله،
وتوازنه، مع ما تحدثه الحرب، أن كانت جائرة، أم أكثر جورا
ً. وقد تكون الفنون (منذ رسومات المغارات والدمى الطينية،
والزخارف، والنقوش، وصناعة الخرز، والأساور، والقلائد ..الخ)
قد اقترنت بما للوفرة ـ أي ما توفره الفئات غير الفقيرة ـ
من دوافع للحفاظ على موقعها، ومن التاريخي إلى الرمزي، إلا
أن شيئا ما، مشفرا ً، ومخفيا ً، يكمن في نسق آليات التعبير،
يتجاوز تلك الفئة، أو الطبقة، من اجل الديمومة. إن
اختيارات إبراهيم العبدلي، حتى عندما يرسم (حقيبة المقاتل
ـ أرزاق المعركة) فانه يلفت النظر إلى شيء آخر: انه
المقاتل الذي توارى بين السماء والرمال. فالرسام لا يتقصى
دور المصمم المكلف من مؤسسة ما، كإعلان، للدفاع عن قضية
محددة، بل يرسم بإنسانية شاملة. فعندما يرفع شعار: الفن من
اجل الإنسانية، يتبادر إلى الذهن سؤال غير معلن: وهل ثمة
فنون تشتغل ضد الإنسانية؟ نعم ... تلك التي تدخل في صميم
عمل المؤسسات، وهي تؤدي دورا ً ما، ليس للصالح العام (أو
للبشرية بلا تمييز) بل لفئة ضد فئة، أو لشعب ضد شعب آخر،
الأمر الذي يجعل المقارنة قائمة في النوع ... فثمة فنون
تحرّض على العنف، عبر توظيفها للأسى والعناصر والأبعاد
الجمالية، دون النظر إلى عمق التصادم، وما يتركه من جراحات
عميقة لا يكتوي بها إلا من لا قدرة له على إعلانها، أو
الإفصاح عنها. العبدلي، في منهجه، سمح لبصره وأصابعه
وبصيرته أن لا تؤدي دور بعض القصائد، تدفع ببعض الناس إلى
الموت، لا لأجل عدالة كلية، بل لجعل النيران تعمل على حرق
الممتلكات، والبشر، فالعبدلي ـ في هذا السياق ـ يتمسك
بالغاية، عبر الرسم، وهو يصّور المسافة بين المرضي،
والطبيعي، وبين المعتم والمشع، وبين التراب والطيف، وبين
الحجر والومضات .. الخ فهل شيّدت حضارتنا (وحضارة الأرض
برمتها) باليات العنف، والقهر، والتدمير، عبر أكثر الفنون
اتقانا ً: فن صياغة تقنيات الموت، من اجل الموت، ومن اجل
أن يتمتع القاتل، لزمن، بعذابات ضحاياه، أم أن حضارتنا (بالاسم
ـ أو بالشعار) مازال تراوغ بفنون التلاعب بمشاعر البشر
وعقولهم.. لتبرر شرعية الحرب، أيا ً كانت، وهي لا تعمل إلا
لإدامة كل ما هو معاد ٍ، بل ولا علاقة له بالحضارة، كما
ذكر العالم النفسي (فرويد) وهو يتأمل أوضاع أوربا إبان
الحرب العالمية الأولى بما تمتعت به من غياب للحكمة،
والفضائل.
إن إبراهيم العبدلي، لا ينظر إلى قفا الحياة، أي، باطلها
القائم على الباطل، أو بصفتها، كما يرد ذلك في الأمثال
السومرية، محض ريح تعبر من جانب إلى جانب، بل يتمسك
بالجانب البديل، المغاير للأسى، والبشاعة. فهو، كما قال
الحكيم الصيني (لاوتسي): ضع قدمك في الطريق الصحيح .. على
خلاف من استهوتهم بعض أساليب الحداثة، كأشكال باهرة،
مصّنعة بمهارة، اختار أقدم أساليب الرسم، ومناهجه التي
سمحت للمرئي، أن لا يكون سطحا ً دعائيا ً، بل، وضمن
اللاشعور العميق، مشفرا ً بـ (عدم) دفع الآمل إلى حافته:
التصادم ـ والموت. فالأمل ليس (أيديولوجية) وليس علامة (تجارية)
داخل منافسات حرية السوق، أو ضمن شعار: حرب الجميع ضد
الجميع، كي لا يمجد الفن ـ والمعرفة والثقافة ـ بل هو، منذ
تكوّنت بذور الرهافات الفنية، لا يعلن عن انحياز أعمى. انه
يحفر في الأسى، والنكبات، لا كي يكون الفن (مطهرا ً) ـ
بالمعنى الأرسطي ـ وإنما، كي يؤدي الفنان دور النص نفسه:
ليس تمجيدا ً أو انحيازا ً لهذا المنتصر، ضد الأخر الذي
تمت هزيمته، ولا لصالح المهزوم، ضد هذا المنتصر، بل إلى
تحليل يتوخى تفكيك الانحيازات العمياء، ليسهم بالدرجة
الأولى، للتمسك بما يجعل الفن، كالأمل، لا يمجد الموت،
وإنما، في الوقت نفسه، لا يمجد الرداءة.
نماذج:
ـ (طفلة
في صبرا وشاتلا)
بحذف الهلال ـ إشارة للمؤسسة الصحية ـ والوجه ـ إشارة
للوجود البشري ـ فان النص الفني يغدو ـ كما كان سيزان قد
حول الطبيعة إلى اسطوانات وحدود هندسية ـ بعيدا ًعن هدفه:
المفارقة. أي، جمع المتناقضات داخل إطار النص الفني.
فالمعالجة التصميمية حولت الأشياء ـ الفتاة ـ إلى سطوح،
وألوان، وعناصر أخرى، لتحافظ على مغزى الاختيار: طفلة
مشردة، لا تحدق في احد، وهي محاطة بالمخلفات. فمشهد الدمار
يتوازن بالمعادل الجمالي، كي يحافظ على تكنيك الرسام
الواقعي، ليحافظ على الملمس، والهرموني اللوني، مع تباين
في القيمة الضوئية .. الخ لأجل بناء دال ٍعلى التزام
الفنان بالحفاظ على تكوين مدروس، كنص لا ينتمي إلى الفن
الخالص، أو الفن من اجل الفن. إلا أن إعادة تقييم التكوين
ـ البناء ـ لا علاقة له إن كان للفن غائيات رمزية، أو
أيديولوجية، أو نفسية .. الخ فالعبدلي عمل على توازن منح
فيه موضوعه مكانة توازي المجال الإنساني ـ بل والخلقي ـ
الذي يرتقي الموضوع فيه نحو هدفه: لا فن بلا محركات، ولا
محركات بلا تنظيم عالٍ.
ـ (الماء
أمل العودة بسلام)
إن جذور العبدلي البغدادية، وثقافته، في هذا النص الفني،
تذكرنا بعادة شعبية: سكب الماء ـ كفعل له جذوره السحرية ـ
لعودة المسافر، أو الذهاب إلى مكان غير آمن. وبعيدا عن ـ
أو قريبا ً من ـ التفاصيل، التي بدات كلقطة سينمائية، لا
تنتظر المزيد من الشرح، إنما ثمة علاقة ما، بين رذاذ الماء،
وملامح المقاتل الذاهب إلى جبهات القتال، علاقة حياة،
مشفرة بما يريد النص أن ينقله إلينا، وليس بما يريد الفنان
حسب. إن واقعية الفنان ـ كما في تجارب للفنان محمد عارف ـ
لا تعزل المعالجة الرمزية عن المعالجة الواقعية، على صعيد
الأسلوب في الأقل. فحركة المقاتل لا تخفي انه آت ٍ من فضاء،
غير مشخص، مثلما هو ماض ٍ إلى فضاء، مجهول، ذلك لأن المعنى
ليس أكثر من تصّور في الذهن، إنما، اتحد بالبصري، ليعادل
هاجس اللاعودة. وأسلوبية العبدلي ـ كما في أعمال فنية أخرى
له ـ لا تخفي انحيازها لمضمونها الإنساني المعلن، إنما في
حدود البناء الفني، وتكنيكه (أداءه) الواقعي.
ـ (أرزاق
معركة)
لو لم يضع الفنان لنصه هذا عنوان (أرزاق معركة)، أي، حقيبة
المقاتل، لشرد ذهن المتلقي، إلى: حياة جامدة (ستل لايف).
والمقارنة لا تكمن إلا في هذه المناورة، المقصودة أو
المعبرة عن لا شعور الفنان لعميق. فما معنى رسم حقيبة
مقاتل وسط امتداد الأرض ـ والحرارة بلغت ذروتها ـ بأفق
ينتهي بزرقة سماء شحيحة، أو مبهمة؟ فهل اسر، أم هرب، أم
قتل صاحب هذه الحقيبة؟ لا إجابة. إنما ليس ثمة إشارة لحرب،
أو موت، أو حياة. حتى كأن العبدلي ـ هنا ـ يناور بواقعية
للتعبير عن أسئلة ميتافيزيقية! على أن معالجة الفنان لم
تغادر أسلوبيته، فلا اثر للمدارس الميتافيزيقية، أو
الوجودية، إلا عبر ما تضمنه النص الفني من غموض، إلى جانب
تصوير أرزاق مبعثرة، دون عنف، وسط فراغ خال ٍ من علامات
الموت، إلا في حدود ألوان الأرض الترابية، القاحلة، مع
إشارة لسماء لا نعرف أهي القفل، أم هي المفتاح؟
ـ (القدس)
بين واقعية لوحة (القدس) ورزيتها، لا يخفي الفنان أن
المعنى ليس، هو: إشكالية جمالية، بل يذهب نحو أصول بالغة
القدم: الحفر في المحركات اللا مرئية للصراع. فالتاريخي،
في النص، يرجعنا إلى استحالة عقد توازن بين العقل والحدس،
وبين الضرورة والاختيار. إن هذا اللا مرئي وقد غدا واقعة
تاريخية، يومية، يفصح عن نفسه: مشهد الجمهور الأعزل عن
السلاح في مواجهة القوة. فالنص وثيقة تتداخل فيها مخفياتها
النائية. وتأويلات المتلقي ستتقيد بالموضوع، والمعالجة،
ولا تسمح للرمزي أن يذهب ابعد من انتصارات، تتوازن، مع
مقدماتها، حيث: باطل الأباطيل باطل، إنما الفنان ـ بفعل
واقعيته ـ يزاوج بين دور الملصق، والإيحاء، وكأن الحلم، في
الأخير، لا يصنع الواقع، أو أن الواقع هو الذي يخترع
التصّورات، وإنما ثمة مسارات تحكمها قوانينها، وليس
الإنسان (الضحية) إزاء الطغيان، إلا ومضة في الدورة.
ـ (نساء حزينات يحملن ملابس جندي)
لم يستبدل إبراهيم العبدلي عائلته اللونية بألوان تناسب
موضوعه التعبيري. فقبل ظهور جماعة (القنطرة) و (الفارس
الأزرق) في ألمانيا، فقبل تميز الألمان بالتعبيرية ـ في
تيارات الحداثة ـ كان رسام المغارات قد اختار اللون الأسود
والأزرق والأحمر، ألوانا ً أساسية (صافية/ بيور) كمقاربة
مع موضوعات الفجيعة، والقسوة، والعنف. على أن التعبير، في
واقعية التنفيذ، هنا، دمجت الذاتي بالموضوعي. فالنسوة
عراقيات ولسن اسبانيات أو ايطاليات أو روسيات، ليس بملامح
وجوههن، أو ملابسهن فحسب، بل بالعويل الذي عمل الفنان أن
يجعله مسموعا ً، بحركة فرشاة تبني موضوعا ً (مهدما ً) يلخص
نبأ الصدمة: الفجيعة. والنبأ سينبني في مفردات اللوحة،
وبطريقة المعالجة، كي لا يستبدل الفنان ألوانه بعائلة
لونية أخرى. فلون التراب، من التبني إلى لون الوحل،
والظلام، يؤدي دور الألوان الأخرى. فهنا يكتسب المشهد لون
الفجيعة، وكأننا إزاء أشكال استحدثت ـ واستحالت ـ أشباحا
ً، من شدة الصدمة. انه واحد من أكثر الموضوعات (عراقية) ـ
كامتداد لأسلوبية ظهرت عند محمود صبري ـ حيث التجّذر،
ودراسة الحقل الايكولوجي، لا تخفي معالجة الرسام لمضمون
ويلات تمتد إلى قرون. الأمر الذي لم يسمح له بإجراء تحوير
في الأسلوب، وإنما، على العكس، لم يسمح للجمالية إلا أن
تتوحد بالمعالجة وتتداخل فيها، دون أن تفقد معادلها بين
المضمون ومهارة أداء فنان أفصح عن موقفه كاملا ً.
ـ (ليلى
العطار)
بموتها، تحررت ليلى العطار من انتظار الموت. وإذا كان
انشغالها بموضوعات: الغروب/ والمرأة في مواجهة الطبيعة،
وضمنا ً: الاغتراب، لسنوات طويلة، كان دافعا ً لها كي تبقى
تتمسك بحلمها: التحرر من الحلم! إبراهيم العبدلي، في هذا
الاختيار، يصّور ليلى العطار، قبل أن تولد ـ وبعد أن وحدها
عصف (الصاروخ) بالأشجار والتراب. إنها تجعلنا مرآة، لأننا
ـ بعد قرون وقرون ـ كما أنجز الرسام في نصه الفني، لا نعرف
كيف حدث هذا تماما ً: كيف استفاقت الرسامة وتوحدت بفنائها،
داخل إطار هو ما سيذكرنا بالفاعل، بعد أن مكثت ليلى العطار،
مثل الهة الحب (انانا) عند السومريين، إنما للانشغال
بالفردوس، وليس بالخراب: ومضة مشفرة بسفر يمتد ابعد من
المسافات، حيث واقعية العبدلي، مرة ثانية، يتوحد فيها
المرئي، بما هو سابق ـ ولا حق ـ لموضوعات الإنسان ـ ودماره.
ـ (لوركا)
1999
عندما منحت لوحة (لوركا) الجائزة الأولى، في المهرجان
التشكيلي الذي اقيم لمناسبة مرور قرن على ولادة الشاعر
الاسباني، والذي أقامته السفارة الاسبانية في عمان عام
1998، فان فكرة ولادة الشاعر لا تتستر على عملية اغتياله،
بل تمنح الولادة ـ كما في لوحة ليلى العطار ـ ديمومة الحلم:
فهذا الغنائي العظيم، الذي نذر حياته للانعتاق، منح الحرية
مذاقا ً جعل القهر علامة شائبة بكامل أبعادها. والعبدلي،
في لا شعوره السحيق، كان لا يرسم فحسب، بل يستعيد صوت
الشاعر، عبر وحدة عناصر النص ـ الرمز/ الواقعي ـ كتعويذة
لم تفقد سحرها، وأبديتها. إن لوركا ـ كالشاعر التونسي أبو
القاسم ألشابي ـ آبى إلا أن يغادر الحفر، وكل ما يتعلق
بالخنوع، والذل، كي يصلب، رمزا ً لكل حرية لا تكونها
القيود، والوهن، بل النذور. والعبدلي، هنا، منح واقعيته
الرمزية، مضمونا ً كليا ً، لا يتحدد بأرض، أو شعب، بل بما
هو خارج كل قيد، وانغلاق.
ـ (
الإنسان والحضارة) ـ 2003
قد يشوش الشرح النص، وقد يربك التأويل، هو الآخر، المتلقي
ويبعده عن النص الفني، بترك المخيال يستكمل دورته. إنما،
الرسام يرسم اختيارات لا يمكن استبدالها، أو إغفالها. فهو
(يحكي) ويكاد صوته أن يبح، لا قصة للسعادة، أو عن الشقاء،
بل للذي يتقاطع مع حقيقة أن للوجود معان ٍ غير التي تصدع
هذا الوجود وتربكه حد المحو. فواقعية الفنان ليست تاريخية،
أو منشغلة بالحدث، والملامح، والهوية فحسب، بل الحفر في
أسئلة سكنت قاع الرأس (منذ أزمنته المظلمة)، لا تخص تدمير
البراءة وحدها، بل بجعل الدرب يذهب في مسارات أكثر انغلاقاً،
إنما الفنان لا يتذكر أو يستعيد، ولا يتركنا نحدق في
المجهول، بل يصّور الحاضر بين مقدماته، وما ستؤول إليه
آليات صناعة عالم تكونه الحرائق، والأنقاض، وانين أحلام
ضحايا الأمس، واليوم. إن الفنان ـ هنا ـ كما في واقعيته
الفكرية ـ وهى فلسفية في أهدافها ـ لا يرسم من اجل الرسم،
أو يعامل فنه كسلعة، أو يرسم لأجل مذهب من المذاهب، أو تحت
تأثير أيديولوجية من الأيديولوجيات، إنما، وهو في داخل
التاريخ، يضع الإنساني بموازاة: ما لم يدشن بعد، لا في
تصوير ما تحدثه الحروب فحسب، بل للحلم وقد ينبت، وينبثق،
كما عملت أساطير (ديموزي) في حضارة وادي الرافدين. إنها
الواقعية وقد عملت كبنية دينامية مغذاة بروافدها كاملة.
فوجه المرآة السومرية، في يسار اللوحة ـ وهو نحت بالحجم
الطبيعي ومن الرخام الأبيض، والذي يرجع زمنه إلى خمسة آلاف
سنة ـ يستعير رسمه الفنان، ويستعيده، كي يشهد الماضي على
خراب الحاضر. فسومر التي دمرت قبل أربعة آلاف سنة، ستشهد،
في فاتحة الألفية الجديدة (الثانية للميلاد) دمارا ً شاملا
ً مماثلا ً لدماره القديم. ويقابل هذا الوجه، عن يمين
اللوحة، صورة جريح أبى أن يحدق فينا! فإذا كانت السومرية
تحدق في الفراغ الممتد، فان الآخر ـ الطفل الجريح ـ لا
يحدق في العدم. إن النص الفني ليس إعلانا ً عن: دمار/
وعدوان/ وإيذاء/ ونهب ممتلكات/ وثروات/ وإحداث أذى لا
يحتمل فحسب، بل النص الفني يحفر في عصر تشتغل العلامات فيه
(والصور) بأشكالها المتنوعة، كي يحافظ على الصدمة، وكأنها
لم تحدث فقط، بل ستحدث، لا لإيذاء (الحضارة) كتجريد، بل
لإيذاء الإنسان، المكون من لحم ودم وعاطفة، كأحد أكثر
العلامات لم تخلق فائضة، أو للاستهلاك، والنبذ.
انه اشتغال يمنح الواقعية رمزيتها، حيث التعبير لا يمكن
فصله عن الحفر في أقدم قضايا الموجودات: القهر ـ والحرية.
ـ عودة
إلى المقدمات: خاتمة
(دراجة ورطب
وهمر)
لا ترجعنا الصورة إلى عصر ما قبل الكتابة، بسبب أسبقيتها،
ومن ثم تحولها إلى أبجدية: حروف لغة مدوّنه، وإنما بما
تضمنته من اختزال في التعبير، لا تستدعي إلا اضاءات (سردية)
تناسب درجة المتلقي في الاستلام. إن واقعية العبدلي، لم
تقده إلى التجريد، أو الاشتغال بذاتية بالغة الخصوصية.
فالفردانية (أو الذات بوصفها مستقلة) مكثت ذات منحى (مجتمعي)،
بدل المغامرة بتأثيرات الحداثة، وبهرجتها، في بلدان مازالت
تعيش حياة العصور البرية، وحياة قائمة على الاستيراد، فضلا
ً عن التعليم، والصحة، والسكن ما تحت خط الفقر، أو الصفر،
مما وسع المسافات بين النخب (الاجتماعية/ الثقافية) وعامة
الناس. فالقرن الأخير (وفاتحته) لم يتسما بالعنف، وعدم
الاستقرار، والانخلاعات فحسب، بل بفجوات في الحياة
المعرفية، والإنسانية، لم تترك للإبداع، في الغالب، إلا أن
ينحسر، ولا يشكل أداة تنموية لإنتاج: التصّورات، والأفكار،
لصياغة مصائر في حدها الأدنى.
على أن الأستاذ إبراهيم العبدلي، لم يختر الواقعية بصفتها
منهجا ًـ وأسلوبا ً ـ لا يتطلب الاستعارات، والاتكاء على
مقاربات الحداثة (الوافدة مع سواها من البضائع، والسلع)،
بل اختارها كامتداد لتدشينات كان رواد التشكيل العربي، منذ
فاتحة القرن العشرين حتى منتصفه، قد أسهموا بوضع أسسها، أي
منذ محمود مختار وراغب عياد، ومصطفى فروخ وفائق حسن وجواد
سليم، مثلاً، وهو الامتداد الذي تطلب موهبة (توحدت فيها
المهارة بالخيرة والأفكار) لتنتج إضافات تمد جسورها مع
الذوق العام، أو لا تتجاهله في الأقل.
بهذا الدافع كانت واقعية إبراهيم العبدلي، تتضمن، عملها
النقدي، وعدم الاكتفاء بالمحاكاة، أو الانطباع، أو التعبير
المحض.
واختيار نماذجه التي عالجت موضوعات: الحرب/ والعنف، لم
تهمل النزعة الانتقادية، بما تمتلكه من اشتغال بقضايا
عدالة الإنسان، وكرامته. بمعنى أن هذه الواقعية تضع
المتلقي إزاء أسئلة لا للتأمل المحض، أو المجرد، أو
الانطلوجي، بل بما يخص مصيره في نهاية المطاف.
هذا النص الفني، الذي يبدو قد استند إلى صورة فوتوغرافية،
ليس من صنع المخيال، إنما الذي يجعل اختيار الفنان موجها
للمتلقي العام في إثارة أسئلة لا تتضمنها الواقعية خارج
عملها ألانتقادي.
وفي مقدمة الأسئلة: أين ـ هو ـ صاحب الدراجة؟ هذا المزارع،
الذي جني الرطب، في الصيف، واختفى؟ هل لأنه شاهد، عن بعد (الهمر)
تغلق الطريق.. ام لأنه، اسر، أو اختطف؟ إن خلو الطريق من
البشر، ومن آثار العنف ـ فضلا ً عن سلامة الدراجة وكأنها
تدشن للمرة الأولى ـ لا توثق حقيقة حدثت فحسب، بل تجعل
الأسئلة ـ بواقعيتها ـ أن يبلغ ذروتها: إن (الهمر/ كعربة
عسكرية لا تستخدم إلا في الأوضاع الاستثنائية) الأولى ـ
والثانية ـ كلاهما يغلقان الطريق، ووجودهما لن ينفصل عن
غياب (هرب أو خطف أو اسر) صاحبها، في الطريق العام.
فالمشهد كونته علاماته بالإيحاء ـ بل بالدال ـ الرمزي. لأن
غياب صاحب الدراجة، سيغدو مضمونا ً إنسانيا ً مضادا ً
للعنف، أو في الأقل، يبحث عن العلل. والمشهد ـ هنا ـ
يذكرنا بلوحة سابقة للفنان: أرزاق معركة ـ مثلا ً، حيث
الواقعية تغدو أسلوبا ً في الرؤية، وأسلوبا ً في تفكير
الفنان.
إن واقعية الفنان إبراهيم العبدلي، في هذه النصوص الفنية،
لا تبحث في الحلول، بل تحفر في المكونات، بعد أن اكتسبت
الواقعية محليتها، على صعيد الأشكال والرموز، والعلامات،
فضلا ً عن خطابها المتحرر من الانحياز، أو الانغلاق. فما
صوّره، من آثار تركها العنف، وما خلفها خراب الحروب،
والتدمير، والقسوة، لا تولد عنفا ً مضادا ً، ذلك لأنها غير
قائمة على ديمومة (الثار) أو (الانتقام) بل لأنها عملت على
صياغة خطاب يجعل الجمال، في الأخير، علامة للمقارنة،
بالدمار، والغياب، والموت.
1 ـ هيرونمونموس بوش ـ هولندي 1453 ـ 1516م. رسام رمزي
وخيالي مقلق. انشغل برسم اللوحات الصغيرة المحتشدة
بالشخوص،ورسم سلسلة من اللوحات تخص محاكم ويلات العنف
والقسوة. وقد ذكر هربرت ريد ان خيال سلفادور دالي لا يمكن
ان يقارن بالمخيال عند بوش.
* كاتب وفنان تشكيلي عراقي. عضو رابطة نقاد الفن [الايكا]