
واقعية الأسلوب
وشفافيته
بعيداً
– قريباً – في التوازن
عادل
كامل
في الرسم العراقي المعاصر ، هناك علاقة جد خاصة بين الرسام
واسلوبه بين شخصيته الداخلية ، وأفكاره، وعالمهن وبين
إنجازه الفني، وموضوعاته، وتكنيكية أيضاً: علاقة تطابق
لدرجة الوحدة، وبالمفهوم النقدي الحديث، فهناك بنية
متماسكة تتمسك بكلاسيكية العلاقة بين الفنان وأهدافه
الإبداعية، نجد ذلك عند فائق حسن..ومحمد عارف..وممحمد على
شاكر..وعند إبراهيم العبدلي، في سياق اتجاه شكل تياراً
واقعياً في الرسم المعاصر في العراق. فالفنان العبدلي
(1940) في هذا الاتجاه تلقى دروسه المبكرة، في الرسم، على
يد فائق حسن، شيخ الرسامين، والموجه الأول للواقعية في
تنويعاتها الحديثة. لق
إنحاز العبدلي، لهذا التيار، في فترة ظهور نزعات الحداثة
الأوربية – الغربية، وفي عملية اختيار تتم عن صلتها برؤيته
وأفكاره الفنية. كان هذا التطابق، له صلة بالأصالة،
والمهارة. فقانون النقد لا يحدد، مسبقاً، الشكل الأخير
للفن. إنه يقف، في الغالب، إلى جانب المهارة وهي لا تتقاطع
مع عالم الفنان الداخلي. والعبدلي، هو واحد من هؤلاء
الفنانين الذين تمسكوا بالمكان ، والمرئيات، والاسلوب
المجسد لمنطق سائد في الرسم العالمي، فقد انشغل بأثر
البصريات وامتزجت – المرئيات – بذاكرته: هذا العالم الذي
خبره، واحبه، فالمكان له سيكالوجيته ، وصلته برؤية الفنان،
من جهة، وله أثره في أسلوبه وتكنيكه من جهة ثانية ، وقد
جاءت تجارب ابراهيم العبدل، منذ الستينات ، حتى نهاية
القرن العشرين ، باختيار متوازن مع شخصيته ..وفي جانب آخر،
لم يظهر رغبة بالقفز إلى اسلوب آخر. فالإصابة عنده حددت
اختياره لإعادة بناء المشهد الواقعي، بحساسية تبلغ درجة
الرصافة الشعرية، والأداء الموسيقي داخل بنية اللوحة. ولم
يكن هذا الاختيار ، في أواسط الستينات – وما بعد ذلك – إلا
موقفاً نادراً إزاء موضة التحديث والتجريب والمحاكاة
للأساليب الوافدة. فاختار الموضوعات اليومية، الاجتماعية،
والتراثية، ولم يختر تقليد ما هو غريب عن شخصيته،
والتقاليد ذات الصلة بواقعية الفن. هذا الاختيارِ، بعد
سنوات طويلة نسبياُ، سيغدو ظاهرة في الرسم العراقي ، وقد
رسخ العبدلي، مع فائق حسن وزملائ له ، مدى أهمية الواقعية،
في أصولها وتطورها ، كعلاقة جدلية مع المحيط والبشر، ومع
إرساء التقاليد الأكثر توازناً بين التجارب الفنية ،
والحديثة، بالمنظور الحديث للواقعية.
جذور – وتقاليد
شخصياً أتذكر، عشرات الأسماء التي ظهرت، منذ السبعينات،
ولكنها لم تواصل الاتجاه الذي تمسك به إبراهيم
العبدلي..أسماء، مثل ، حازم جياد، في لعيبي، وليد شيت،
صلاح جياد، محمد فرادي، نعمان هادي..الخ وقد حافظ العبدلي
على وحدة الرؤية مع الاسلوب ، أيذكرنا بجذور تجاب ريادية
عند خالد القصاب .. نجيب يونس..توري مصطفى بيجت..خالد
الجادر..وفي الوقت نفسه ، سيكون جسراً لمفهوم هذا الاتجاه،
فالرسم عنده هو رؤيته من غير تطرف في الاسلوب. فالتوازن في
اختيار الموضوعات وتنفيذها بخطاب له جذوره ، شكل منطق
التقاليد، ومغزى التوقيع في هذا المسار. ولم يكن هذا
الاختيار، في السبعينات وحتى الآن، سهلاً أو بلا
عمق..فأمام التجريد، والتجريد التعبيري، والاستخدمات
التكنيكية لتأثيرات (تابيس) والحدافية الأوربية،كانت
واقعية الرؤية، عند إبراهيم العبدلي، تمثل تمسكا ًللتوازن
بين مختلف الاتجاهات..فقد راح الفنان – كما فعل نجيب يونس
– يختار الموضوعات والاسلوب المناسب لها ..ومشكلة الاسلوب،
في تجاربه، وجدت حلها بتضافر عوامل –[1] رؤيته [2] تفحص
هذا الاتجاه، وتحويراته [3] حساسيته تجاه مكونات العمل
الفني [4] مع عناية لتوقيعه داخل الخطاب الواقعي، إنها
عناصر تجمعت لتشكل مغزى الخبرة، والرسم بثقة أكبر..فقد كرس
الفنان حياته، كما فعل فائق حسن، للرسم،لا في سياق الحرفة،
وحدود الرسم التقليدي، وإنما في المهفوم الأعمق لخفايا
الرسم الذي لم يغادر البند الواقعي الشامل، في ماضيه، أو
في التجارب المعاصرة.
موضوعات – وحساسية
لا تفصح موضوعات الفنان، الواقعية، إلا عندما نتأمل خفايا
اسلوبه: مهارته كعازف بالفرشاة ، ونقل البعد السمعي إلى
حساسية الالوان.. وتمثل المكان بتصاميم حديثة، وتفحص البشر
بمنظور تعبيري، بعيداً عن الاغترار الذي يحول الأشكال إلى
أشياء، أن تفحص موضوعات [1] الحياة الساكتة [2] الصور
الشخصية [3] ورسومات مستمدة من مواقع العمل [4] طيور [5]
لقطات إنسانية خاصة [6] عربات وخيول وأزقة..كلها، في هذا
السياق، تكتسب بعداً شفافاً بالرسم. فالمهارة عنده، ليست
استعراضية، أو ثمرة خبرة مجردة ، بل هي ، عبارة عن نشيد
لوني، راقص يتوازن، وبالغ الرهافة، إنه يلعب ، كما فعل
رسام الكهوف، أو مثلما كان يرسم (مونيه) ابتهاجاً بأسرار
كامنة في خفايا الموضوع، وربما – هي – أحد مظاهر الذات في
تساميها الجمالي. إن العبدلي لا يصنع فلسفة، في عصر تزداد
فيه القسوة، ويتعمق فيه مفهوم الصراع والاغتراب ، بل يتوقف
عند الجانب الشعري في المسار البتشري. كرسام، نراه يحتفل
بالمكان، والناس، والأشكال، وقد تعامل معها كرموز وعلامات
كاملة للحياة. فالعناصر ، داخل بنية اللوحة ، تؤدي دورها
الفني ، وفي نفس الوقت، تنقلنا إلى مجال النقل الديناميكي
، فأعماله عبارة عن تمجيد متواصل لروح العمل ، للإنسان،
عبر تمثلات العناصر للبعد الإيحائي والرمزي..بهذا البعد ،
فالموضوعات متاحة للجميع ، وبلا حدود، ولكن الاسلوب ، هنا،
أعاد لها سرها الجمالي: سر الرسم الذي مكث ضرورة داخل
الذاكرة البشرية. فالحساسية ، التي تمتع بها الفنان، أتاحت
له [1] أن يحول الأشكال الساكنة (ستل لايف) لضرب من
الموسيقى [2] ويمنح الصور الشخصية ملامحها التعبيرية
الداخلية [3] ويضع لحظات العمل كتحد لقسوة الخارج [4]
ويجعل من الطيور حركة غير قابلة للسكون [5] فضلاً عن
المواقف الإنسانية بمختلف أبعادها النفسية والروحية [6] مع
تنويعات تعكس تمتعه بشمولية الرؤية: فخامة المعمار ..وتناغمات
الأضواء مع الظلال ..الأشكال القديمة بما تحمل من ذكرى ،
تجاه متغيرات المكان..هذه العلاقة، بين الموضوعات والرسم،
منحت الواقعية بزحفها المشترك بين الاتقان ، ورعافة
التعبير بالرسم.
شهادة
كتب فائق حسن [ برهن الفنان الزميل ابراهيم العبدلي على
إمكانياته الفنية المعروفة ونلمس ذلك بمجمل أعماله الفنية
زيادة على تقنية زيادة على تقنيته الحساسة ولمساته بمضمون
أعماله، ونشعر بهذا بانتاجاته المستمرة التي أثبتت عن
تجربة وخبرة لسنين عديدة] كان هذا العام (1989) وبعد أربع
سنوات سبكت الفنان اسماعيل الشيخلي [ الزميل العبدلي من
أبرز فناني جيله، بما قدمه من أعمال رائعة، فهو فنان
بغدادي، تراثي، شعبي، أصيل باسلوبه الواقعي الانطباعي
المعاصر، رسام بطريقته الشاعرية وألوانه المتميزة ذات
التأثير الموسيفي..ستبقى أعماله متميزة في هذه الفترة من
تاريخ الفن العراقي المعاصر] تكفي كلمات فائق حسن والشيخلي
للتعبير عن موقف نقدي دقيق صادر عن خبرة ومكانة بارزة في
التشكيل العرافي . وبالإمكان تلخيص الموقف [1] الاتقان [2]
الحساسية [3] المضمون [4] المثابرة[5] البغدادي [6]
التراثي [7] الشعبي [8] الاسلوب [9] الشاعرين [10] الاثر
الموسيقي [11] ديمومة الأثر. الخ أن هذا الايجاز النقدي
الفريد له مغزاه المزدوج، فهناك الجانب النقدي عند فاشق
وحسن..وهناك التشخيص والتقييم الخاص بالعبدلي. وهي مناسبة
لدراسة عليا تتناول الجانب النقدي عند مبدعينا العرب في
تحليل ورصد مواقفهم النقدية، النظرية، الفلسفية. في المجال
الذي يغني العملية الإبداعية . فهذا الإيجاز ، جدير بتجارب
ابراهيم العبدلي، كتجربة امتلكت أصالتها..بالمنظور الواقعي
الحديث.. وامتلكت عناصرها البنائية، والجمالية في الأخير.
لم تكن تجربة الفنان بحاجة إلى تجربة للتعرف بها، إنها
تشرح نفسها بسبب الاختيار المباشر، والعفوي، والحر،
للموضوعات، وقد جاء الاسلوب الواقعي ليعزز رؤيته لجماليات
المشهد العام ..فهو ينتفي الموضوعات التي شكلت خزينة
البصدي..لهذا تحول الخيال، في لوحاته، إلى تكنيك العمل
نفسه: تلك المهارة في الأداء والتي تبلغ ذروتها بالمناخ
الموسقي، والشاعري. ومصدر هذا الهاجس ارتبط بحب الفنان
للمقام العراقي، سماعاً وأداءاً أيضاً .. فضلاً عن مكونات
شخصيته التي وصفها الفنان حمدي مخلف بطيبة القلب. حيث
انعكست شخصيته في أعمال عبر شفافية المعالجة. فهو عندما
يرسم بالزيت فكأنه يقوم برصد ألوان الموسيقى وأنغامها،
بضربات سريعة، متتالية، وفي الغالب منسجمة ومعبرة عن حيرة
عميقة، مكنها. في هذا المجال، تنقلنا إلى امتدادات الذاكرة
وإلى الخيال المتحرك. فتلاعبه بالضوء والظل، بالتدرج في
القيم الضوئية ، والحادة أحياناً ، يشحن عمله بديناميكية
داخلية تمنح اللوحة بنية مستقلة ولا يمكن معناها إلا فيها.
فإذا كانت مصادر موضوعاته مستمدة من المدينة (بغداد)
وأريافها، وإذا كانت ذاته قد وخصت في صميم العمل، فإن
لوحاته تمتلك حياتها الخاصة في الأخير. بيد أن الواقع ،
وذات الفنان، ومنجزه، تتداخل في أسلوبه الشفاف: فهو يعبر
عن تاريخ المدينة والبشر، بعاطفة متأججة، لكنها صافية ،
كأن الحب يكمن في أعماله، كذات رائية لصفاء الأشياء. وهذا
هو أحد معالم واقعيته، في بعدها الجدلي. فليس ثمة أساليب
تموت، أو تستحدث من العدم. إن العبدلي ، بخبرته الطويلة،
وازن بين الصدق الفني، والتعبير العفوي، التلقائي، موازنة
منحت اسلوبه قوة بنائية مميزة ، على حد تعبير لفائق حسن،
قوة ببناء مناخ العمل، وما يمنحه من بعد خيالي. ولعل خلاصة
تجاربه ، يكمن في منح أقل الأشياء إثارة، لغة جذابة لها
مغزاها الجمالي. فهو يعرف أين يضع – وكيف – الأشياء،
كعناصر مكونة لعمله الفني. لأنه لم يقفز فوق الرسم..بل راح
يدرب ذاته طويلاً لاحترام قوانين الرسم، وينجز تجاربه،
بخبرة أضعاف لها حبه العميق لفن الرسم.. فهو يلعب، بحسب (شيلر)
، كشرط لتكامل التجربة، اللعب الذي يمنح الفن معناه
وجمالياته، سره ودهشته..فالفنان لا علاقة له بالمحاكاة،
ولكن فنه الواقعي – الحديث، جاء متكاملاً لجماليات الواقع
، بعد أن أضفى عليه الكثير من إنسانيته الرقيقة والشفافة.
بغداد